تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 339 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 339

339 : تفسير الصفحة رقم 339 من القرآن الكريم

** وَلاَ يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مّنْهُ حَتّىَ تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فِي جَنّاتِ النّعِيمِ * وَالّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذّبُواْ بِآياتِنَا فَأُوْلَـَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّهِينٌ
يقول تعالى مخبراً عن الكفار أنهم لا يزالون في مرية, أي في شك من هذا القرآن, قال ابن جريج واختاره ابن جرير. وقال سعيد بن جبير وابن زيد منه, أي مما ألقى الشيطان {حتى تأتيهم الساعة بغتة} قال مجاهد: فجأة, وقال قتادة {بغتة} بغت القوم أمر الله وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم, فلا تغتروا بالله إنه لايغتر بالله إلا القوم الفاسقون. وقوله: {أو يأتيهم عذاب يوم عقيم} قال مجاهد: قال أبي بن كعب: هو يوم بدر, وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة وغير واحد, واختاره ابن جرير. قال عكرمة ومجاهد في رواية عنهما: هو يوم القيامة, لا ليل له, وكذا قال الضحاك والحسن البصري, وهذا القول هو الصحيح, وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به لكن هذا هو المراد, ولهذا قال: {الملك يومئذ لله يحكم بينهم} كقوله: {مالك يوم الدين}.
وقوله: {الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوماً على الكافرين عسير} {فالذين آمنوا وعملوا الصاحات} أي آمنت قلوبهم وصدقوا بالله ورسوله وعملوا بمقتضى ما علموا, وتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم {في جنات النعيم} أي لهم النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول ولا يبيد {والذين كفروا وكذبوا بآياتن} أي كفرت قلوبهم بالحق وجحدوا به, وكذبوا به وخالفوا الرسل واستكبروا عن اتباعهم {فأولئك لهم عذاب مهين} أي مقابلة استكبارهم وإعراضهم عن الحق, كقوله تعالى: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} أي صاغرين.

** وَالّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ قُتِلُوَاْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنّهُمُ اللّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنّ اللّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنّهُمْ مّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنّ اللّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ * ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنّهُ اللّهُ إِنّ اللّهَ لَعَفُوّ غَفُورٌ
يخبر تعالى عمن خرج مهاجراً في سبيل الله ابتغاء مرضاته وطلباً لما عنده, وترك الأوطان والأهلين والخلان, وفارق بلاده في الله ورسوله, ونصرة لدين الله ثم قتلوا, أي في الجهاد, أو ماتوا أي حتف أنفهم أي من غير قتال على فرشهم, فقد حصلوا على الأجر الجزيل والثناء الجميل, كما قال تعالى: {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله}. وقوله: {ليرزقنهم الله رزقاً حسن} أي ليجرين عليهم من فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم {وإن الله لهو خير الرازقين * ليدخلنهم مدخلاً يرضونه} أي الجنة كما قال تعالى: {فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم} فأخبر أنه يحصل له الراحة والرزق وجنة النعيم, كما قال ههنا: {ليرزقنّهم الله رزقاً حسن} ثم قال {ليدخلنهم مدخلاً يرضونه وإن الله لعليم} أي بمن يهاجر ويجاهد في سبيله وبمن يستحق ذلك {حليم} أي يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب, ويكفرها عنهم بهجرتهم إليه وتوكلهم عليه.
فأما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر, فإنه حي عند ربه يرزق كما قال تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون} والأحاديث في هذا كثيرة كما تقدم, وأما من توفي في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر, فقد تضمنت هذه الاية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق عليه وعظيم إحسان الله إليه. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا المسيب بن واضح, حدثنا ابن المبارك عن عبد الرحمن بن شريح عن ابن الحارث ـ يعني عبد الكريم ـ عن ابن عقبة يعني أبا عبيدة بن عقبة قال: قال حدثنا شرحبيل بن السمط: طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم, فمر بي سلمان يعني الفارسي رضي الله عنه, فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مات مرابطاً أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر, وأجرى عليه الرزق, وأمن من الفتانين, واقرؤوا إن شئتم {والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً وإن الله لهو خير الرازقين ليدخلنهم مدخلاً يرضونه وإن الله لعليم حليم}».
وقال أيضاً: حدثنا أبو زرعة, حدثنا زيد بن بشر, أخبرني همام أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المعافري يقولان: كنا برودس ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فمر بجنازتين إحداهما قتيل, والأخرى متوفى, فمال الناس على القتيل, فقال فضالة: ما لي أرى الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا ؟ فقالوا: هذا القتيل في سبيل الله, فقال: والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت ؟ اسمعوا كتاب الله {والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتو} حتى بلغ آخر الاَية, وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا عبدة بن سليمان, أنبأنا ابن المبارك, أنبأنا ابن لهيعة, حدثنا سلامان بن عامر الشيباني أن عبد الرحمن بن جحدم الخولاني حدثه أنه حضر فضالة بن عبيد في البحر مع جنازتين أحدهما أصيب بمنجنيق, والاَخر توفي, فجلس فضالة بن عبيد عند قبر المتوفى فقيل له: تركت الشهيد فلم تجلس عنده ؟ فقال: ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت إن الله يقول: {والذين هاجروا في سبيل اللهثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسن} الاَيتين.فما تبتغي أيها العبد إذا أدخلت مدخلاً ترضاه, ورزقت رزقاً حسناً, والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت.
ورواه ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب, أخبرني عبد الرحمن بن شريح عن سلامان بن عامر قال: كان فضالة برودس أميراً على الأرباع, فخرج بجنازتي رجلين, أحدهما قتيل والاَخر متوفى, فذكر نحو ما تقدم. وقوله: {ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به} الاَية, ذكر مقاتل بن حيان وابن جرير أنها نزلت في سرية من الصحابة لقوا جمعاً من المشركين في شهر محرم, فناشدهم المسلمون لئلا يقاتلوهم في الشهر الحرام, فأبى المشركون إلا قتالهم, وبغوا عليهم, فقاتلهم المسلمون فنصرهم الله عليهم {إن الله لعفو غفور}.

** ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ يُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهَارِ وَيُولِجُ النّهَارَ فِي اللّيْلِ وَأَنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ هُوَ الْحَقّ وَأَنّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنّ اللّهَ هُوَ الْعَلِيّ الْكَبِيرُ
يقول تعالى منبهاً على أنه الخالق المتصرف في خلقه بما يشاء, كما قال: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير * تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب} ومعنى إيلاجه الليل في النهار والنهار في الليل إدخاله من هذا في هذا ومن هذا في هذا, فتارة يطول الليل ويقصر النهار كما في الشتاء, وتارة يطول النهار ويقصر الليل كما في الصيف.
وقوله: {وأن الله سميع بصير} أي سميع بأقوال عباده. بصير بهم, لا يخفى عليه منهم خافية في أحوالهم وحركاتهم وسكناتهم, ولما بين أنه المتصرف في الوجود, الحاكم الذي لامعقب لحكمه قال: {ذلك بأن الله هو الحق} أي الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له, لأنه ذو السلطان العظيم الذي ما شاء كان, وما لم يشأ لم يكن, وكل شيء فقير إليه, ذليل لديه {وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} أي من الأصنام والأنداد والأوثان, وكل ما عبد من دونه تعالى فهو باطل, لأنه لا يملك ضراً ولا نفعاً. وقوله: {وأن الله هو العلي الكبير} كما قال {وهو العلي العظيم} وقال: {الكبير المتعال} فكل شيء تحت قهره وسلطانه وعظمته, لا إله إلا هو, ولا رب سواه, لأنه العظيم الذي لا أعظم منه, العلي الذي لا أعلى منه, الكبير الذي لا أكبر منه, تعالى وتقدس وتنزه عز وجل عما يقول الظالمون المعتدون علواً كبيراً.